فصل: (سورة القلم: الآيات 8- 16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.البلاغة:

في قوله: {ن والقلم وما يسطرون} إلى قوله: {غير ممنون} فن المناسبة اللفظية، وهي عبارة عن الإتيان بلفظات متّزنات مقفّات.

.الفوائد:

1- منع جمهور النحاة تعليق الجار والمجرور والظرف بأحرف المعاني، وأجازه بعضهم وفصّل بعضهم، فقال إن كان نائبا عن فعل حذف جاز ذلك على سبيل النيابة لا الأصالة وإلا فلا، قال ابن هشام في المغني: ومن ذلك قوله تعالى: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} الباء متعلقة بالنفي إذ لو علقت بمجنون لأفاد نفي جنون خاص وهو الذي يكون من نعمة اللّه وليس في الوجود جنون هو نعمة. هذا ما ذكره ابن الحاجب وغيره وهو كلام بديع إلا أن جمهور النحويين لا يوافقون على صحة التعلّق بالحرف فينبغي أن يقدّر على قولهم أن التعلق بفعل دلّ عليه النافي أي انتفى ذلك بنعمة ربك وقد ذكرت في شرحي لقصيدة كعب بن زهير عند الكلام على قوله:
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ** إلا أغن غضيض الطرف مكحول

إن المختار تعلق الظرف بمعنى التشبيه الذي تضمنه البيت وذلك على أن الأصل وما كسعاد إلا ظبي أغن على التشبيه المعكوس للمبالغة لئلا يكون الظرف متقدما في التقدير على اللفظ الحامل لمعنى التشبيه وإذا جاز لحرف التشبيه أن يعمل في الحال في نحو قوله:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ** لدى وكرها العناب والحشف البالي

مع أن الحال شبيهة بالمفعول به فعمله في الظرف أجدر.
أما الزمخشري فقد سلك مسلكا غريبا في تعليق {بنعمة} قال: فإن قلت: بم تتعلق الباء في {بنعمة ربك} وما محله؟ قلت يتعلق بمجنون منفيا كما يتعلق بعاقل مثبتا في قولك: أنت بنعمة اللّه عاقل مستويا في ذلك الإثبات والنفي استواءهما في قولك ضرب زيد عمرا وما ضرب زيد عمرا تعمل الفعل مثبتا ومنفيا إعمالا واحدا كأنه قال: ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي. وقد تبع الزمخشري معظم المفسرين.
قال النسفي: الباء تتعلق بمحذوف ومحله النصب على الحال والعامل فيها بمجنون.
و تعقب أبو حيان الزمخشري فيما ذهب إليه فقال: وما ذهب إليه الزمخشري من أن {بنعمة ربك} متعلق بمجنون وأنه في موضع الحال يحتاج إلى تأمل وذلك أنه إذا تسلط النفي على محكوم به وذلك له معمول ففي ذلك طريقان أحدهما أن النفي يتسلط على ذلك المعمول فقط والآخر أن يتسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه بيان ذلك تقول ما زيد قائم مسرعا فيتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه فيكون قد قام غير مسرع والوجه الآخر أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه أي لا قيام فلا إسراع وهذا الذي قررناه لا يتأتّى معه قول الزمخشري بوجه بل يؤدي إلى ما لا يجوز أن ينطق به في حق المعصوم صلى الله عليه وسلم.
2- ذكر صاحب المغني أن الباء في {بأيّكم المفتون} زائدة، قال في مواضع الباء الزائدة: الثالث المبتدأ وذلك في قولهم بحسبك درهم وخرجت فإذا بزيد وكيف بك إذا كان كذا وكذا ومنه عند سيبويه: {بأيّكم المفتون} وقال أبو الحسن {بأيّكم} متعلق باستقرار محذوف يخبر به عن المفتون ثم اختلف فقيل {المفتون} مصدر بمعنى الفتنة وقيل الباء ظرفية أي في أي طائفة منكم المفتون.
هذا وقد قال أبو حيان: لا ينبغي حمله عليه لقلته. فالمعروف أن الباء لا تزاد في المبتدأ إلا إذا كان لفظ (حسب) قياسا، وقال ابن يعيش: أما زيادتها في المبتدأ ففي موضع واحد وهو بحسبك. وذكر الكافيجي: إن زيادتها في بحسبك زيادة في الخبر وجعل درهم مبتدأ مؤخرا وبحسبك هو الخبر لأنه هو محطّ الفائدة والمعنى درهم واحد كافيك. قال تلميذه السيوطي: وهو من الحسن بمكان ولا أعلم في اختياراته في العربية أحسن منه. والمسوغ حينئذ هو تقدم الخبر وهو جار ومجرور.

.[سورة القلم: الآيات 8- 16]

{فلا تُطِعِ الْمُكذِّبِين (8) ودُّوا لوْ تُدْهِنُ فيُدْهِنُون (9) ولا تُطِعْ كُلّ حلاّفٍ مهِينٍ (10) همّازٍ مشّاءٍ بِنمِيمٍ (11) منّاعٍ لِلْخيْرِ مُعْتدٍ أثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بعْد ذلِك زنِيمٍ (13) أنْ كان ذا مالٍ وبنِين (14) إِذا تُتْلى عليْهِ آياتُنا قال أساطِيرُ الْأوّلِين (15) سنسِمُهُ على الْخُرْطُومِ (16)}

.اللغة:

{تُدْهِنُ} أصل الإدهان اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام وجعله الزمخشري في أساس البلاغة من المجاز قال: ومن المجاز أدهن في الأمر وداهن صانع ولاين.
{همّازٍ} عياب أي مغتاب وقيل الهمّاز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم واللمّاز باللسان وفي المختار: اللمز العيب وأصله الإشارة بالعين ونحوها وبابه ضرب ونصر وقرئ بهما في قوله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} ورجل لمّاز ولمزة بوزن همزة أي عياب. وفيه أيضا: الهمز كاللمز وزنا ومعنى وبابه ضرب والهامز والهمّاز العيّاب والهمزة مثله يقال رجل همزة وامرأة همزة أيضا وهمزات الشيطان خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان والمهماز حديدة تكون في مؤخر خفّ الرائض.
{مشّاءٍ} صيغة مبالغة أي ساع بالكلام بين الناس على وجه الإفساد بينهم.
{بِنمِيمٍ} النميم قيل هو مصدر كالنميمة وقيل هو اسم جنس لها كتمرة وتمر وهو نقل الكلام الذي يسوء سامعه ويحرش بين الناس لتأريث نار البغضاء في الصدور وفي المصباح: نم الرجل الحديث نما من بابي قتل وضرب سعى به ليوقع فتنة أو وحشة فالرجل نم تسميته بالمصدر ونمّام مبالغة والاسم النميمة والنميم أيضا.
وقال الزمخشري: والنميم والنميمة السعاية، وأنشدني بعض العرب:
تشبّبي تشبّب النميمة تمشي ** بها زهر إلى تميمه

والبيت الذي استشهد به الزمخشري لأعرابي يخاطب النار والتشبّب التوقد والنميمة تزوير الكلام وتزويقه للإفساد بين الناس وثوب منمنم ومنمّم أي منقّش محسّن وزهر اسم امرأة اشتهرت بالنميمة وتميمة قبيلة معروفة، نزّل النار منزلة العاقل فأمرها وقال: اشتعلي كاشتعال التميمة حال كونها تمشي بها هذه المرأة إلى بني تميم وكانت كثيرة الإفساد بين العرب حتى ضرب بها المثل، وبين نميمة وتميمة الجناس اللاحق.
{منّاعٍ لِلْخيْرِ} أي بخيل بالمال والخير هنا يراد به عموم ما يطلق عليه.
{عُتُلٍّ} غليظ جاف قيل في الطبع وقيل في الجسم وقال أبو عبيدة: هو الفاحش اللئيم وقيل الغليظ الجافي ويقال عتلته وعتنته.
{زنِيمٍ} دعي، قال حسّان بن ثابت:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم ** كما نيط خلف الراكب القدح الفرد

يخاطب حسان بهذا البيت الوليد بن المغيرة فيقول إنه زنيم أي معلّق في آل هاشم كالزنمة في الإهاب وهي قطعة جلد صغيرة تترك معلقة بطرفه فشبهه بها وشبّهه بالقدح المنفرد الفارغ المعلق خلف الراكب وكان الوليد دعيا في قريش ليس من سنخهم، ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده وقيل بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية، جعل جفاءه ودعوته أشدّ معايبه لأنه إذا جفا وغلظ قسا قلبه واجترأ على كل معصية ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها ومن ثم جاء في الحديث: «لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده» ويروى أنه لما نزلت قال الوليد لأمه: إن محمدا وصفني بتسع صفات أعرفها غير التاسع منها فإن لم تصدقيني الخبر ضربت عنقك فقالت له: إن أباك عنين فخفت على المال فمكنت الراعي من نفسي فأنت منه، هذا ما قاله المفسرون والذي نراه ورجحه أبو حيان أن هذه الأوصاف ليست لمعين ألا ترى إلى قوله: {كل حلّاف} فإنما وقع النهي عن طواعية من هو بهذه الصفات التي جاءت للمبالغة وسيأتي مزيد بحث عنها في باب البلاغة.
{سنسِمُهُ} نضع العلامة على الوجه.
{الْخُرْطُومِ} أنف السباع وغالب ما يستعمل في أنف الفيل والخنزير، وفي القاموس: الخرطوم كزنبور الأنف أو مقدمه أو ما ضممت عليه الحنكين كالخرطم القنفذ.

.الإعراب:

{فلا تُطِعِ الْمُكذِّبِين} الفاء الفصيحة لأنها عطفت على محذوف دلّ عليه السياق وينبئ عنه ما قبله والنهي بمنابه التهييج وإلهاب التصميم على معاصاتهم، ولا ناهية و{تطع} فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت و{المكذبين} مفعول به.
{ودُّوا لوْ تُدْهِنُ فيُدْهِنُون} {ودّوا} فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة و{لو} حرف مصدري للتمنّي على رأي البصريين لوقوعه بعد فعل الودادة وقد تقدم القول فيه مفصّلا في قوله تعالى: {يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة} وهي وما في حيّزها في تأويل مصدر مفعول {ودّوا} وقيل إن مفعول {ودّوا} محذوف أي ودّوا إدهانكم وحذف لدلالة ما بعده عليه و{لو} باقية على بابها من كونها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره وجوابها عندئذ محذوف تقديره لسرّوا بذلك والفاء حرف عطف ويدهنون فعل مضارع معطوف على {تدهن} فهو في حيّز {لو} فهو من المتمنى، والمتمنى شيئان ثانيهما متسبّب عن الأول أو هو خبر لمبتدأ مضمر أي فهم يدهنون.
وفي الكشاف: فإن قلت لم رفع {فيدهنون} ولم ينصب بإضمار أن وهو جواب التمنّي قلت قد عدل به إلى طريق آخر وهو أنه جعل خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون.
{ولا تُطِعْ كُلّ حلّافٍ مهِينٍ} الواو عاطفة و{لا} ناهية و{تطع} فعل مضارع مجزوم بلا و{كل حلّاف} مفعول به و{مهين} نعت لـ: {حلّاف}.
{همّازٍ مشّاءٍ بِنمِيمٍ منّاعٍ لِلْخيْرِ مُعْتدٍ أثِيمٍ} صفات مسرودة سيأتي الحديث عنها في باب البلاغة و{بنميم} متعلق بـ: {مشاء} و{للخير} متعلقان بـ: {منّاع}.
{عُتُلٍّ بعْد ذلِك زنِيمٍ} الظرف متعلق بـ: {زنيم} وهذه البعدية في الرتبة أي هذا الوصف وهو زنيم متأخر في الرتبة والشناعة عن الصفات السابقة فبعد هنا كثم التي للترتيب والتراخي في الرتبة.
{أنْ كان ذا مالٍ وبنِين} {أن} مصدرية وهي وما في حيّزها في موضع نصب بنزع الخافض أي لأن كان وهو متعلق بما دلّ عليه {إذا تتلى} أي كذب بها ولا يصحّ أن يكون معمولا لفعل الشرط لأن إذا تضاف إلى الجملة بعدها والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف ولا يصحّ أن.
يكون معمولا لقال الذي هو جواب الشرط لأن ما بعد أداة الشرط لا يعمل فيما قبلها.
وقال الزمخشري متعلق بقوله: {ولا تطع} يعني ولا تطعه مع هذه المثالب لأنه كان ذا مال أي ليساره وحظه من الدنيا. وقال أبو حيان: ويجوز أن يتعلق بما بعده على معنى لكونه متموّلا مستظهرا بالبنين كذب آياتنا. و{كان} فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو و{ذا مال} خبرها {وبنين} عطف على {مال}.
{إِذا تُتْلى عليْهِ آياتُنا قال أساطِيرُ الْأوّلِين} {إذا} ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وهو متعلق بجوابه وجملة {تتلى} عليه في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة {قال} لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم و{أساطير الأولين} خبر لمبتدأ مضمر أي هي أساطير الأولين.
{سنسِمُهُ على الْخُرْطُومِ} جملة مستأنفة كأنه لما ذكر قبائح أفعاله وأقواله ذكر ما يفعل به على سبيل التوعد، والسين حرف استقبال ونسمه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به و{على الخرطوم} متعلقان بنسمه.

.البلاغة:

1- في مجيء هذه الصفات مسرودة على نمط عجيب خلّاب فن المناسبة، فجاء {حلّاف} وبعده {مهين} لأن النون فيها مع الميم تراخ ثم جاء {همّاز مشّاء بنميم} بصفتي المبالغة ثم جاء {منّاع للخير معتد أثيم} وبعد ما عدّله من المثالب والنقائص أتى بصفتين من أشدّ معايبه وقد دلّت البعدية لتدل على ذلك.
2- وفي قوله: {سنسمه على الخرطوم} كناية عن المهانة وأحطّ دركات الذل إذ لما كان الوجه أشرف ما في الإنسان والأنف أكرم ما في الوجه جعلوه مكان العزّة والحمية واشتقوا منه الأنفة ومن أقوالهم:
حمي الأنف شامخ العرنين

وقالوا في الذليل جدع أنفه ورغم أنفه وكان أيضا مما تظهر السمات فيه لعلوه، قال: {سنسمه على الخرطوم} وهو غاية الإذلال والإهانة والاستبلاد إذ صار كالبهيمة لا يملك الدفع عن وسمه في الأنف وإذا كان الوسم في الوجه شينا فكيف به في أكرم عضو فيه وقد قيل: الجمال في الأنف قال بعضهم:
وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل ** فكيف إذا ما الخال كان له حليا

وجعلها الرازي استعارة، استعار الخرطوم للأنف ولا أرى له مناسبة. وتعسف النضر بن شميل فقال إن الخرطوم الخمر وإنه سيحد على شربها وهذا منتهى التعسف في التأويل وإن كان الخرطوم من أسماء الخمر وقيل للخمر الخرطوم لأنها تطير في الخياشيم.